'أمي صفية'... أمّ من حب..لا من رحم
في عالم يركض خلف المصالح والحسابات، كانت هي الاستثناء الجميل؛ امرأة وقفت في وجه الوحدة والمسافات، والحرمان، لتقول: "لن يُترك طفل وحيدًا ما دمتُ هنا". قصتها ليست مجرّد حكاية إنسانية، بل نداء لكل قلب بشريّ: أن الأمومة لا تولد فقط من الرحم، بل من القلب والإرادة. رحلتها مع أطفال SOS ليست مجرد مهنة أو رعاية، بل حياة كاملة عاشتها بكل جوارحها، وجعلت منها أمًّا خالدة في ذاكرة من ربتهم، وفي ذاكرة كل من عرفها أو سمع عنها.
في أحد بيوت قرية SOS، حيث يُعد ''الحنان'' مهنة بأجر وساعات، سكنت ''أمي صفية'' لسنوات طويلة وقضت ربيع شبابها هناك إلى بلغت سن التقاعد، لكنها رفضت التقاعد فعلا، لأن الأمومة لا تعرف تقاعدا أو نهاية خدمة. ليست أماً بيولوجية إنما هي أم بالاختيار، أمٌّ قرّرت أن تمنح الحب لمن حُرموا منه. قصة هذه السيدة الاستثنائية تشبه الحكايات القديمة، لكنها واقعية حدّ الألم، جميلة حدّ الدهشة.
ولدت "أمي صفية" من رحم المسؤولية في وقت مبكر من حياتها، حين اضطرت إلى رعاية إخوتها الصغار بعد مرض والدتها. وهناك، في قلب تلك التجربة، تشكّلت بذور أمومتها. وحين خطت قدماها ذات يوم داخل قرية SOS، لم تكن تدري أن حياتها ستتغيّر إلى الأبد، لكنها علمت منذ أول لحظة أنها تريد أن تبقى هناك.
رفضت الزواج، وأغلقت باب الأمومة البيولوجية بكامل إرادتها. كان بإمكانها أن تبني بيتًا خاصًّا، لكنها اختارت أن تكون البيت نفسه، والحضن الدافئ لعشرات الأطفال الذين وجدوا فيها أماً لا تختلف في الحنان عن أي أم أنجبت أبناءها من رحمها، بل ربما كان حنانها وعطفها أكبر.
"أنا أم إلى الأبد"، تقول أمي صفية بثقة ودفء. وهي تعني ما تقول. فقد وهبت حياتها بالكامل لأطفال القرية، ربّتهم كما لو كانوا فلذات كبدها، سهرت على مرضهم، تابعت دراستهم، ووقفت إلى جانبهم في زواجهم ومحنهم ومرضهم، كما لو كانت أمًّا لكل واحد منهم فقط.
لكن طريقها لم يكن مفروشًا بالورود. فقد استقبلت أطفالًا محطّمين نفسيًّا، بعضهم جاء من قصص قاسية، من حروب عائلية وصدمات نفسية، وواجهت فيهم الرفض والتمرد والوجع. كان عليها أن تصبر، أن تحب بصمت، أن تربّت على الجراح دون أن تسأل عن مقابل. كانت تسهر الليالي، وتنتقل ليلاً إلى المستشفيات بمواردها الذاتية، وتقاتل في صمت من أجل حقوق أبنائها في الرعاية الصحية.
أحد أشد المواقف إيلامًا في حياتها كانت لحظة استرجاع إحدى الفتيات التي ربّتها منذ الرضاعة من قبل عائلتها البيولوجية. بكت، مرضت، ورفضت تسليم "ابنتها"، إلى أن رضخت مرغمة، وهي تنزف ألمًا داخليًّا لم يندمل حتى اليوم، ومزالت جراحه تنزّ بين الكلمات وهي تحكي القصة الموجعة..
ولم تكن الأحزان عابرة في حياتها، فقد فقدت أحد أبنائها وهو في الثلاثين من عمره. ذلك الابن الذي أحبّها حدّ التقديس، وكان حريصًا على إسعادها في عيد الأم، فارقها باكرًا، وترك في قلبها ندبة لا تشفى.
ورغم الوصمة المجتمعية التي تلحق بأطفال SOS، كانت أمي صفية دائمًا لهم درعًا واقيًا، تعلمهم أن لا يخجلوا من ماضيهم، وأن لهم عائلة، بل أعظم أمّ يمكن أن يحظى بها أي طفل. تقول إحدى بناتها: "كانت دائمًا معنا، في الفرح والحزن، لم تتركنا أبدًا". ويضيف ابنها يوسف: "ما فعلته ليس سهلاً أبداً، لكنها كانت أمًّا حقيقية".
اليوم، تلمح أمي صفية أبناءها وقد كبروا، تزوجوا، أنجبوا، وأصبحوا يدينون لها بفضل كبير. يمرّون لزيارتها، يطهون معها، يعتنون بها في مرضها، ويُدلّلونها كأنها أمّهم البيولوجية تمامًا. وهكذا تعود لها الحياة، في لحظة امتنان، في قبلة من حفيد، أو نظرة شكر من ابن لم تنجبه.
أمي صفية، هي أيقونة حية لمعنى الأمومة المختارة، الأمومة النبيلة التي تُعطي دون حساب، وتمنح دون شروط. لم تكتب فصلها في كتاب علم النفس أو التاريخ، لكنها كتبته في قلوب العشرات، وربما المئات ممن مرّوا من بيتها، وخرجوا إلى العالم بشيء من الحنان، والكثير من الإنسانية.
أمل الهذيلي